دراسة الكتاب المقدس:
+ سؤال: هل يمكن وصف ”الِشركة الروحية“ مع قديسي الكتاب المقدس وصفاً تدريجياً وبالتفاصيل، وإعطاء مَثَل على أيٍّ من هذه الشخصيات التي تذكرونها؟ وما هو المقصود بالرؤيا العقلية؟ وكيف تربطون بينها وبين ”الشركة الروحية“؟
- إن إيماني الذي لا يتـزعزع أن تسجيل الوحي لأسماء شخصيات الكتاب المقدس وتقديم تفاصيل دقيقة للغاية عن حياتهم الشخصية وضعفاتهم وقوتهم وعلاقتهم بالله، هو أن هذا السرد القصصي مرتبط ارتباطاً أساسياً بحياتنا الشخصية وعلاقتنا بالله وانفتاح بصيرتنا لإدراك ما هي مشيئة الله نحونا. هذا الإيمان في الحقيقة هو نتيجة عملية وصلتُ إليها.
فبإخلاص التلميذ الصغير والضعيف جلستُ أمام الكتاب المقدس والدموع تملأ عينيَّ: كيف سأستوعب هذا الكتاب المقدس بعهديه وأنا هنا وحدي وفي دير مهجور مخرَّب لا يوجد به كتاب واحد يشرح لي ويُفهمني، ولا أب ولا أخ ولا مَنْ يجيب على أسئلتي؟ بهذه الروح المسكينة والمنسحقة فتحتُ الكتاب وبدأت أقرأ، ووضعتُ على نفسي أن أكون مدقِّقاً في قراءتي، فاحصاً وباحثاً عن قصد الله من المكتوب ومني تماماً، كما كنتُ أستذكر دروسي في المدرسة بكل إخلاص واهتمام بل وأكثر. وبالرغم من أني في كل أيام دراستي لم أسهر مرة واحدة الليل كله، إلاَّ أني ظللتُ في بدء رهبانيتي ولمدة سنة كاملة أسهر الليل كله.
فانفتح الكتاب المقدس أمامي وانفتح ذهني للكتاب، وبدأتْ أسرار الله تتسرَّب بهدوء إلى أعماق كياني كما يتغذَّى الطفل الرضيع. وقد أحسستُ أثناء القراءة أنه يحدث اتصال حقيقي سرِّي بالحوادث داخل قلبي.
فكان قلبي يتأثر، وبدأ التأثر يكون على المستوى الحسِّي، أي كانت نبضات قلبي تزداد بشدة إزاء حادث روحي ما كان يتحرك له شعوري سابقاً حيث يبدو في مظهره عادياً بل وتافهاً، وقليلاً قليلاً حدث شيء غريب، وهو أن قلبي بدأ يضرب بشدة ويزداد نبضه، وجسدي كله ينمِّل numbness فجأة وبدون سبب، ولا يوجد أمامي أي شيء يستوجب ذلك، ولكن بمجرد أن أستمر في القراءة أجد بعد سطر أو اثنين الشيء الذي بدأ جسدي كله وروحي داخلي تنفعل معه. هنا أدركتُ أنه يوجد مجال خاص روحي بدأ يربطني بالله وبالأشخاص والحوادث، يسبق عقلي ويسبق عيني وذهني.
وهنا بدأتُ أدرك معنى النعمة (قوَّة مجانية إلهية)، وبدأتُ أدرك معنى أن الله موجود أو كلِّي الوجود، ولكن وجوده يحتاج منا إلى تهيئة خاصة أو تناغم خاص ليلتحم بهذه القوَّة، ثم أدركتُ إدراكاً عملياً ومحسوساً معنى حياة الله، وهي مجاله الفعَّال في الخليقة وفي الإنسان بصورة فائقة.
حينما بدأتُ أسترسل في دراسة حياة الآباء والأنبياء على هذه الصورة من الدقة والاهتمام والانفتاح القلبي، ازدادت كثرة تردُّدي للدخول في مجال نعمة الله، وابتدأت قصص الآباء وحديثهم مع الله ومعاملات الله معهم تأخذ تجسيداً فكرياً لا إرادياً، وهو تصوُّر عقلي يظهر فجأة وبوضوح وكأنه يمكن إمساكه للحوادث والأشخاص بصورة واقعية متحركة غير منظورة للعين الحسية (وتبقى كما هي حتى ولو أغمض الإنسان عينيه)، لا تكون بعيدة عني (كأني أرى فيلماً سينمائياً مثلاً). كلاَّ، بل أجد نفسي داخل هذه الرؤيا أتحرك معها وفيها وكأن ما أقرأه وأتعقَّله هو خاص بي ولي ويشير إليَّ، فأجد في قصة إبراهيم مثلاً توقيعاً رتيباً لحياتي وما هو مطلوب مني، هذا بحد ذاته جعلني أقترب من إدراك معنى واختبار النِّعَم الروحية التي يسمونها وسائط النعمة.
فكانت روحي تتطبَّع وتتشكَّل وتتعدَّل داخل هذا المجال الروحي. ولكن ليست المسألة بسيطة كما يتصورها القارئ، فدخولي في المجال الروحي لأي قصة كان يحبسني فيها عن اضطرار فأظل محبوساً رغماً عني، ولكن بمنتهى مسرتي أدور في القصة الواحدة أسبوعاً كاملاً أو أكثر، فقصة إبراهيم بالذات ظللتُ داخل مجالها الروحي ما يقرب من ثلاثة شهور، ولكن دون أن يظهر عليَّ شيء مُلفت لنظر أحد. فكنتُ أسير سيري العادي وأُؤدي أعمالي اليومية العادية، ولكن دموعي لا تفارقني من الفرح والعزاء والاندهاش، وكأن نفسي تُهدم وتُبنى من جديد. ويمكن أن أصوِّرها بمنـزل قديم يُراد تجديده فتخلع منه كل يوم طوبة ويوضع بدلاً منها طوبة جديدة. فالمنـزل قائم أمام الناس كما هو ولكن حركة التجديد سارية فيه بلا انقطاع.
وهذه هي ”الشركة مع شخصيات الكتاب المقدس“، وهذا هو مفهوم ”الرؤيا العقلية“ بصورة مبسَّطة.
+ سؤال: هل الكتاب المقدس وحده يكفي للتأمُّل في الحق والاتحاد به؟
- القراءة لا تضيف على الإنسان شخصية غير شخصيته مهما قرأ حتى لملائكة، وليس لأنبياء أو أدباء أو عباقرة فقط.
القراءة تنبِّه الوجدان، وتوقِظ النفس. والنفس هي التي تجعل من الإنجيل إنجيلاً حيّاً، ومن الأديب أديباً، ومن الفيلسوف فيلسوفاً. النفس عندما تستيقظ، تنتفع بالكلام وتضيف عليه، وتقبل الفلسفة وتضيف عليها؛ لأنه يستحيل أن تنطبق نفس على بصمة نفس أخرى تمام الانطباق. كل نفس في العالم لها سمات ومميِّزات تظهر في الكلمة أو في الفن.
لذلك فالكتاب المقدس يظل للنفس غير المنتبهة لخلاصها كتاباً يحوي قصصاً أقرب إلى الخرافات منها إلى التاريخ الإنساني المنطقي، إلى أن ينتبه الوجدان (مجرد انتباه)، أو تستيقظ النفس (وهذه أعظم نعمة في الوجود)؛ حينئذ يتكشَّف الحق الإلهي بوضوح ساطع وقوة موجِّهة من خلال القصص والحوادث التي كانت سابقاً توافه وطلاسم وخرافات.
لذلك، يسعى الله مُحب البشر أن ينقذ النفس التائهة عن خلاصها فيجعلها تصطدم بهزَّة أو لطمة من نوع يتوافق مع تركيبها (ربما بكلمة في الإنجيل، ربما بعظة، ربما بأيقونة أو صورة، ربما بحادثة، ربما بموت أحد الأعزَّاء جداً، ربما بفقدان أو خسارة أموال كبيرة، إلخ...). وحينئذ تفيق وتنفتح عينها، فتبدأ ترى كل شيء متغيِّراً. وهنا يصبح الكتاب المقدس بمثابة السلَّم الطائر إلى عمق أعماق الحق!!